يفترض في كل إنسان أنه يشعر بقدرته على التحكم في أفكاره فهو يستطيع أن يفكر فيما شاء من أفكار، ويستطيع أن يطرد ما يشاء من وعيه متى شاء، كما أنه يشعر بامتلاكه لأفكاره، ويشعر تجاهها بأنها تعبر عن توجهاته أو مشاعره الشخصية، فإذا طرأت على وعيه فكرة فهو يحس بها مملوكة له وراجعة إليه ويمكنه إبقاؤها في وعيه أو التخلص منها والتفكير في غيرها.
إنه من الطبيعي أن الإنسان يستطيع التخلص من بعض الرغبات أو الأفكار، أما في حالة الفكرة الوسواسية فإن الأمر يختلف حيث يحس الشخص بأن الفكرة إنما تقحم نفسها في وعيه رغما عنه، ويوقن بالطبع أن مصدرها هو عقله، ولكنه يحس بأنها غريبة عليه لأنها عادة ما تكون مخالفة بشدة لتوجهات هذا الشخص ومبادئه ومشاعره، أو أنها على الأقل فكرة لا معنى لها أو لا وجاهة فيها، ويكون رد فعله شيئا من القلق والضيق فيحاول أن يتخلص منها لكنه –للأسف- يعجز عن ذلك، وكلما قاومها زادت حدة إلحاحها على وعيه.
وينطبق الكلام نفسه على الصورة العقلية الوسواسية التي غالبا ما تأخذ شكلا جنسيا أو مقززا بشكل أو بآخر، ويشعر المريض معها بالضيق ويقشعر بدنه من فرط ما تزعجه وتؤلم ضميره ولكنه لا يستطيع الخلاص منها.
وكذلك في حالة الاندفاعات كأن يخـرج الشخص لسانه في المسجـد أو يتفوه بألفاظ خارجة أو ربما أخذت شكل اندفاعات جنسية تجاه المحارم أو شكلا عدوانيا تجاه الناس في الشارع.
وفي الطب النفسي توصف فكرة ما بأنها وسواسية إذا تحققت فيها عدة شروط:
1- أن يشعر المريض بأن الفكرة تحشر نفسها في وعيه وتفرض نفسها على تفكيره رغما عنه.
2- أن يوقن المريض تفاهة أو لا معقولية وعدم صحتها وعدم جدارتها بالاهتمام.
3- محاولة المريض المستمرة لمقاومة الفكرة وعدم الاستسلام لها.
4- إحساس المريض بسيطرة هذه الفكرة وقوتها القهرية عليها، فكلما قاومها زاد إلحاحها عليه ويقع في دوامة من التكرار الذي لا ينتهي.
** بعد هذه المقدمة البسيطة يتضح أن مشكلتك أخي السائل هي مرض الوسواس القهري، واعلم أن هناك وسواسًا آخر هو الوسواس الخناس الذي جاء في القرآن الكريم في سورة الناس.
قال الله تبارك وتعالى: “قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ” [الناس:1-6].
وهو وسواس النفس ووساوس الشيطان التي تشجع الإنسان على التفكير في المعاصي والوقوع فيها، ولذلك أوصانا الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- بالاستعاذة منها بتلاوة سورة الناس ثلاث مرات في الصباح وثلاث مرات في المساء.
وأذكرك أن الشخصية الوسواسية رغم ما تعانيه فهي متصفة دائما بحب النظافة والنظام والالتزام بالمواعيد والوفاء بالعهد وحب الإتقان في كل شيء.
واعلم يا أخي أن الوساوس الدينية موجودة غالبا في الملتزمين، ولكن إن شاء الله مغفور لهم ولا يحاسبون على هذه الأفكار لأنها أعراض مرضية ولها علاج دوائي يعرفه الأطباء النفسيين ولها علاج سلوكي، ولقد كانت النظرة التقليدية إلى الوسواس بين الأطباء أنه داء بلا دواء، أو هو في أحسن الأحوال من أكثر الاضطرابات النفسية مقاومة للعلاج، وكانت الوسائل العلاجية الدوائية الموجودة في الطب النفسي تستخدم مع مريض الوسواس كمحاولة لتهدئته أو إعانتة على التعايش مع الأعراض ولم يكن المريض يجد راحة إلا أن يرحمه الله تعالى فتخف حدة الوسواس القهري من تلقاء نفسها، وهو ما يحدث في كثير من الحالات التي تتحسن بدون علاج وهذا من فضل الله علينا، فلا مانع إطلاقا بل يجب عليك استجابة لأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “تداووا عباد الله، فإن الله ما خلق داء إلا خلق له دواء”.
العلاج السلوكي المعرفي:
* اعلم أن ما تعاني منه أنها أعراض مرضية، وأن الناس من حولك يشهدون بأنها وساوس باطلة، وأنها لا تستتبع ضرر بل هي مجرد أفكار سخيفة عليك ألا تلتفت إليها.
* عليك أن تفكر أن الله تبارك وتعالى أراد عمارة هذه الدنيا وبقاء أهلها فيها إلى المدة التي قدرها، كذلك جعل أسباب السلامة فيها أغلب من أسباب الهلكة، لذلك كان الشفاء هو الأصل في الأمراض كلها.
* عليك أن تفكر أن الله تعالى جعل بلطفه لكل داء دواء، وفرق بين تلك الأدوية في أصناف النبات وأجزاء من أبدان الحيوانات وسخر خلقا من عبادة لتتبع تلك الأدوية، ثم ألهم خلقا آخرين باستنباط صناعة الطب حتى يركبوا تلك الأدوية بأوزانها ومقاديرها.
* أن يفكر المريض أن المرض له أسبابه والصحة لها أسبابها، كما أن البنيان القائم لا ينهدم هكذا بغتة من تلقاء نفسه، والمصباح المنير لا ينطفئ فجأة، ومن دون مقدمات فكذلك الجسم لا يموت إلا بمقدمات معقولة خاصة وأن الوسواس مرض نفسي لا عضوي.
* أن يحرص المريض بالوسواس على تجنب الوحدة لأن من شأنها أن تهيج على الإنسان أحاديث النفس، وهنا تظهر أهمية دور الجماعة الاجتماعية في التسرية عن المريض وإعانته على الاشتغال على وساوسه.
وهنا نذكر حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: “عليكم بالجماعة فإنما بأكل الذئب من الغنم القاصية”.
* الحرص على شغل أوقات الفراغ بالأعمال الصالحة وما يفيد الناس.
* أن يستعين المريض بمن يثق فيهم فيعينوه على تكذيب الوسواس.
